تعال معنا، عزيزي الزائر الكريم، لنسوق لك شيئًا من تاريخ هذه الأماكن المقدسة.
وأنت تتجول في مدينة بغداد، لا بد أن تتوجه شطر جامع ومرقد الإمام الأعظم، ذلك المشهد الإسلامي الجليل الذي طالما تناهت إلى الآذان شهرته، فاشتاقت النفوس إلى زيارته. فهل ترافقنا، زائرنا العزيز، إلى رواق من أروقة العبادة، لنقف معًا على تاريخ هذا المعلم الديني العظيم؟
تاريخ جامع الإمام الأعظم:
كانت المحلة التي يقع فيها مرقد الإمام الأعظم من أبرز محلات بغداد في العصر العباسي، وسُميت مقبرة الخيزران. وبعد وفاة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (رض) في عام 150 هـ – 767م، ودفنه في هذه المقبرة، أصبحت المنطقة تعرف بـ محلة أبي حنيفة أو الأعظمية.
الإمام أبو حنيفة وُلد في مدينة الكوفة سنة 80 هـ – 701م، وعاصر العديد من كبار الصحابة. تميز بتدريسه للفقه الإسلامي وأصبح مؤسسًا للمذهب الحنفي. شهد مرقد الإمام الأعظم مراحل متعددة من البناء. ففي عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان، جُدد مرقد الإمام على يد شرف الملك أبو سعيد الخوارزمي في عام 1459 هـ – 1066م، حيث بُنيت قبة كبيرة على مرقده.
أما تاريخ بناء القبة الحالية للجامع فيعود إلى عام 1048 هـ – 1638م، بينما يعود تاريخ بناء الجامع إلى عام 1288 هـ – 1871م. وفي عام 1903م، تمت إعادة تجديد الجامع، إضافة إلى إقامة الطارمة الخارجية (الأروقة) في عام 1948م.
من أبرز المعالم التي يضمها جامع الإمام الأعظم هي ساعته العتيدة التي صنعها المرحوم الحاج عبد الرزاق محسوب الأعظمي في معمله بين عامي 1921 و1929م. جميع أجزاء الساعة صُنعت بأيد عراقية، وتتميز بدقتها في ضبط الوقت وصلابتها. وقد تم نصب الساعة في عام 1958م، وفي عام 1973م، تم إكساء برج الساعة بألواح من معدن الألمنيوم الذهبي، ما أضفى عليها لمسة من الفخامة. واليوم، وبعد التوسعات الكبرى التي شهدها جامع ومرقد الإمام الأعظم، أصبح من أبرز أماكن العبادة في العراق، ويؤمه آلاف الزوار من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني:
مادمت تتجول في بغداد، مدينة التاريخ والأدب والثقافة، فإننا نصطحبك الآن إلى الحضرة القادرية، الواقعة في جانب الرصافة في محلة باب الشيخ، التي سُميت بهذا الاسم نسبة إلى صاحب الحضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني (رض)، شيخ الإسلام وزعيم العلماء في عصره. قبل أن تدنو من هذه الحضرة الجليلة، دعنا نستعرض قليلاً من تاريخها.
تاريخ الحضرة القادرية:
تُخبرنا صفحات التاريخ أن الحضرة القادرية كانت في البداية مدرسة دينية أسسها الفقيه الحنبلي الشيخ المبارك بن علي بن الحسين المخرمي، الذي توفي في عام 513 هـ – 1119م. وكان الشيخ المخرمي رجل دين جليل وعالم زاهد. من بعده، قام تلميذه الشيخ عبد القادر الكيلاني بتوسيع المدرسة وتجديدها، ليحولها إلى مركز علمي وديني مرموق.
الشيخ عبد القادر الكيلاني وُلد في إقليم جيلان (جنوبي بحر قزوين) في عام 470 هـ – 1077م، وقدم إلى بغداد شابًا. لقد دعمته الأغنياء بأموالهم والفقراء بأنفسهم، وتصدر لتدريس العلم والوعظ في هذه المدرسة. سرعان ما اشتهر بمبادئه في الزهد والتقشف، وأصبح إمامًا جليل القدر. أسس الطريقة القادرية، التي تُعدّ من أكبر الطرق الصوفية انتشارًا في العالم. ويُذكر أن نسبه يمتد من جهة أبيه وأمه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، كما أن له اتصالًا بنسب أبي بكر الصديق (رض)، وعثمان بن عفان (رض)، وعمر بن الخطاب (رض).
الشيخ عبد القادر الكيلاني توفي في عام 561 هـ – 1166م ودفن في رواق مدرسته التي تحولت إلى مسجد فيما بعد، وأصبح واحدًا من أعظم مساجد بغداد.
أعمال عمرانية في الحضرة الكيلانية:
شهد مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني العديد من الأعمال العمرانية المهمة، ومنها بناء قبة ضخمة في عام 941 هـ – 1534م، على مصلاه الشتائي. تعتبر هذه القبة أكبر قبة في العراق شُيدت من الطابوق والجص، وما زالت قائمة حتى اليوم.
أما ساعة الحضرة الكيلانية فقد تم تركيبها في عام 1898م في برج شُيد على طراز برج ساعة القشلة في بغداد. الساعة صُنعت في معامل بونه الشهيرة في مدينة بومبي بالهند، ويبلغ ارتفاع برج الساعة 30 مترًا. ومما يثير الإعجاب أن عقارب الساعة تعمل بانتظام حتى يومنا هذا.
وفي عام 1970م، شهدت الحضرة القادرية جملة من أعمال الصيانة والتطوير، منها تجديد القبتين الزرقاء والبيضاء، بالإضافة إلى إنشاء قباب أخرى مزينة بالقاشاني، مما جعلها آية من آيات الفن المعماري الإسلامي في العراق.
تعد جامع الإمام الأعظم وجامع الشيخ عبد القادر الكيلاني من أبرز المعالم الدينية في بغداد، حيث يشهدان على الثراء التاريخي والإسلامي لهذه المدينة العريقة. اليوم، كما في الماضي، يبقى هذان المعلمان مركزًا للعلم والروحانية، ويزورهما الآلاف من المؤمنين من داخل العراق وخارجه، ليتعرفوا على أصالة بغداد وجمالها الديني والمعماري.